ارجع ...!! ـ





هذه ثاني المقالات في سلسلة حديثي عن العمرة المباركة في بلادنا البائسة


ميناء نويبع .... ـ
هكذا قرأنا على لافتة متهالكة تصف المكان ،، وهكذا تنفس الجميع الصعداء ... آخر بقعة مصرية ... بعدها سنغدوا أجانب ـ وإن أقسم القوميون على غير ذلك ـ هنا تنتهي سلطة أمن الدولة ـ ربما لتحل مكانها سلطة أخرى ـ

المهم أنها تنتهي بعد هذا المكان

بعد هذا المكان .. لن تصدم عينيك صور مبارك والعبور للمستقبل والفكر الجديد ... ربما لتنتقل إلى صور قطعة شطرنج أخرى يسبح غيرك بحمدها .... لكن هذا خير .. قد يكسر التغيير الملل

كان لدي فضول عجيب لأرى كيف ينافق غيرنا غيره
وكيف يركب غيره غيرنا

المهم

بعيدا عن هذه الخواطر العجيبة التي لا أظن أنها قد تجتاح رأس معتمر ، بيد أن رأسي قد ابتليت بها ،، عافاكم الله

نرجع إلى وصف الميناء الذي هو من المفترض آخر مكان يراه المغادرون وأول مكان من ـ مصر الكنانة ، مصر العبور ، مصر الفكر ، مصر مبارك ـ يراه القادمون

حتى لا أتعب في وصف قد أتهم فيه بالمبالغة والتشاؤم ، وحتى تقترب الصورة ،، فإن المكان لا يختلف في قذارته وتخلفه وفوضويته وبدائيته عن أي مرفق حكومي آخر ـ هكذا أنا محايد ـ هو شيء أقرب إلى موقف عبود لسيارات الأجرة الموجود في القاهرة تماما بيد أنه يقع على البحر
نفس الكراسي الخشبية المنهكة من مر الشكوى .. نفس الوجوه الكالحة التي تقرأ فيها كل ما يعانيه هذا البلد من ظلم وقهر وفقر .. نفس السيارات التي تكاد تقتصر مهمتها على زيادة ظاهرة الاحتباس الحراري في الأرض والاحتباس الجسدي للراكبين

توقفت السيارة في منتصف الميناء تقريبا وأخبرنا المشرف أن علينا أن نذهب لنختم الجوازات بتأشيرة الخروج ، استعدادا لركوب العبارة والمغادرة

تحركت بخطى سريعة ووجه باسم ونفس ساخرة كما هي عادتي في الغالب ، لأقف أمام ضابط الجوازات استعدادا لختم خروجي
ـ رايح فين ؟؟ ـ أكيد هو من يقول ـ
ـ عمرة إن شاء الله .. ـ طبعا هذا أنا ـ
ـ يعني خارج على فين ؟؟ وابتسامة بلهاء
ـ السعودية إن شاء الله .. وابتسامة أكثر بلاهة
ـ السعودية ولا الأردن ؟؟ وابتسامة ساخرة
ـ بص اللى تشوفو سعادتك .. وابتسامة مخنوق
ـ وهو ينظر إلى الجواز فين تصريح السفر ؟؟؟
ـ ماهو في إيدك ياباشا
ـ لا ده الجواز فين التصريح ؟؟؟
- لا رد
ـ طيب ياعسل ماينفعش روح هاته وتعالى أختملك
ـ ابتسامة بلهاء ( حتى الآن أشعر أنه يمزح ) ـ
ـ بقولك ماينفعش إنت هاترجع
ـ نعم ؟؟ ( بدأت أشعر أنه لا يمزح ) ـ
ـ يابني أنا مابهزرش جوازك مش مختوم من التجنيد ومحتاج تصريح سفر من الجيش
ـ ما أنا جبت الورق بتاع الجيش وخدوه في الجوازات وبناء عليه طلعولي الجواز
- يابني أنا ماليش فيه دي تعليمات لازم تجيبه تاني وتطلع تصريح خروج
- والحل
- أبدا إرجع هاته وتعالى
لا يعلم هذا الظريف أنه يتكلم عن مسافة أكثر من خمسمائة كيلو تقريبا أشعر أنه يظن أني أسكن خلف الميناء

طبعا لست في حاجة إلى إكمال الحوار حيث أن الباقي تدخل أبي في المناقشة ليتبين أن أخي إسماعيل أيضا له نفس المشكلة



بدأنا في البحث عن أي مخرج لدى رئيس الميناء أو أي من العاملين فيه لكن كانت الإجابة تنتهي بأن هذه تعليمات الجيش ، حتى أن الضابط المسئول قال لأبي أن لو رئيس الجمهورية نفسه هنا ما يعرفش يخلصها ـ طبعا ابتسمت رغما عن الموقف من سذاجة هذا الضابط ـ لكن في النهاية اتضح أن علينا أنا وإسماعيل أن نعود أدراجنا مرة أخرى لكي نستخرج تصريح بالسفر من إدارة التجنيد بالقاهرة

ملحوظة
تصريح السفر يتطلب نفس الأوراق المطلوبة أساسا لعمل الجواز وبالتالي لا يمكن أن يستخرج أحد جواز سفر دون أن يكون له الحق في استخراج تصريح بالسفر
إذن ما أهميته ؟؟
هههه وهل هذا سؤال ؟؟؟ ... أزمة ورق طبعا

طبعا لست بحاجة لأن أصف لكم حالتي وأخي حينئذ ... تصور كل أحلام العمرة والصفاء والبيت الحرام ومسجد الرسول فضلا عن أحلامي الخاصة في رؤية كيف تنافق الشعوب وكيف يركب الحكام ... كل هذا ينهار فجأة

ولماذا ؟؟؟

فقط لأن الجيش يحب الورق ..!!


بعد مداولات ومحاولات من كل من يعرفنا ومن لا يعرفنا لم تفض لشيء
أخذنا قرارانا الوحيد الذي لا نملك غيره


العودة


بكل ما تحمله
من حزن
وقهر
وأسى
ويأس
وبؤس

وكل معنى سيء أعرفه

العودة

إلى أغبى
وأحقر
وأشنع
و...و...و...و .... حكومة عرفها التاريخ

فقط تذكرت أبيات لمطر يحسد فيها الحيوانات على نعمة عدم المرور من أمام جوازات الدول العربية
يقول
وتمرق الجمال من مراكز الحدود
في أسفارها
وتمرق البغال في آثارها
من غير إثباتات
بلا مضايقات
ونحن نسل آدم
لسنا من الأحياء في أوطاننا
ولا من الأموات

خرجنا نحمل كل تلك المشاعر والخواطر لترسم على وجهينا صورة متجسدة للحزن والقهر
أعين كسيرة وخطوات واهنة وصوت مبحوح وابتسامة ـ إن وجدت ـ باهتة ميتة

فقط نفس محطمة

خرجنا لنبحث عن وسيلة نعود بها إلى القاهرة .. ولتكتمل فصول مسرحية بائسة كان لا بد أن لا نجد أي سيارة من سيارات شرق الدلتا الغير آدمية أساسا متاحة في هذا الوقت

لتكتمل لوحة بؤسنا وسخطنا على تلك البلاد

أشار علينا أحدهم بركوب سيارة أجرة من الواقفة أمام الميناء
وبما أن هذه أول مرة نكون فيها في ذلك المكان فتوقفنا أمام المنادي الأول ( مصر .. مصر يابيه ؟؟ ) ـ
بعد أن استفسر منا عن إن كنا نريد سيارة خاصة لنا ـ تاكسي ـ فلم نستطع أن نوفي بسعرها أشار علينا بركوب سيارة أجرة وأخبرنا أن سعرها مئة وخمسون جنيها للراكب ـ للنفر ـ وحين أبدينا عجبنا من ارتفاع السعر وجدنا من يخبرنا أن هذا هو السعر الموجود هنا وأنه ينتظر من مساء أمس لكي يجد غيره فلم يركب حتى الآن

طبعا لم نكن في حالة تسمح لنا بالتأكد من صحة كلاميهما
فركبنا مرغمين

بعد حوالي الساعة تحركت السيارة

سيارة من نوع بيجو 504 لسبعة ركاب المشهورة
لكنها كانت ترسم صورة أخرى لمعاناتنا من سوء حالتها وتهالكها وبرودة سائقها إضافة إلى جو حارق في مثل هذا الوقت إذ لم تكن الساعة قد تجاوزت الحادية عشر ظهرا
فضلا عن سعرها المبالغ فيه

لكن ما باليد حيلة

مضى الطريق بنا مملا سخيفا كئيبا
لم يعد منظر الجبال يبهرني ، بل أصبح يخيفني
لم تعد الصحراء صفراء لامعة ، بل أضحت رمادية كالحة
لم يعد السفر متعة ، بل قطعة من العذاب

تعرفنا طبعا على رفقاء هذه الرحلة البائسة

والمفاجئة

أن أربعة من أصل ستة عائدون لنفس السبب

ومما خفف معاناتنا أن أحدهم تجاوز الخمسين من العمر ولم يرحمه بياض شعره ولا وحدة زوجه التي أكملت الرحلة بمفردها ، لم يرحمه ذلك كله من بيروقراطية حكومة غبية أصرت على أن يحضر بطاقة تصريح سفر للضباط الاحتياط على الرغم من أنه قد تجاوز السن الممكنة لاستدعائه للجيش مرة أخرى

لكن من قال أن للغباء منطق

وصلنا القاهرة بعد ست ساعات من العذاب ، وبدأنا نعد العدة لإنجاز أوراقنا غدا بسرعة ثم العودة مرة أخرى للميناء ومحاولة السفر

استيقظنا صباحا لنبدأ رحلة أخرى يعرفها كل مواطن مصري داخل أروقة حكومتنا الرشيدة ، كانت قصيرة على أخي الذي انتظرني لأنهي أوراقي التي تأخرت حتى الدقيقة الأخيرة لكثرة إجراءاتها

فقط أحب أن أذكر في ذلك اليوم أني ظللت أبحث عن مبنى وزارة التعليم العالي قرابة الساعة والنصف لأجده بعد عناء ـ مثالا لما تقدمه الوزارة من خدمة ـ مبنى قديم متهالك في منطقة لاظ أوغلي بالقاهرة تحيط به القذارة والقدم بل وتتوغل فيه لتشكل سمة خاصة له

هون على عذاب هذه الرحلة الداخلية في أروقة الحكومة وجود صديقي أحمد مختار معي في كل مراحلها حتى أنهينا الورق بسلام .. شكرا له على كل حال


المهم

بدأت أنا وإسماعيل الإعداد للعودة إلى الميناء وكان علينا السفر ليلا للحاق بموعد العبارة الوحيدة التي تتحرك في السابعة صباحا ـ مظهر آخر من مظاهر تخلفنا ـ
عرفنا أن هناك موقف للسيارات بالمرج به سيارات نويبع


ذهبنا هناك لنكتشف أن أجرة السيارة ثلاثون جنيها فقط ...!!!ـ

شعور قاس أن تعرف أنه قد غرر بك ـ على الرغم من أننا نحياه دائما في ظل هذا النظام ـ لكنه قطعا مؤلم

مضت الرحلة بنا هذه المرة سريعة وكان الأمل قد بدأ ينمو داخلنا في أننا قد ننجح في اللحاق بركب العمرة من جديد

وصلنا الميناء الساعة الثالثة فجرا تقريبا لنجد أن أبواب الميناء مغلقة لأنه حسب ما عرفنا يفتح أبوابه في السابعة صباحا ـ هنا يتفوق موقف عبود الذي يعمل أربع وعشرين ساعة ـ
انتظرنا بالخارج حتى السابعة وقابلنا أ.علاء ـ رفيقنا في المعاناة صاحب الخمسة وخمسين عاما ـ وكان قد أنهى أوراقه أيضا

وهكذا دخلنا مرة أخرى إلى موقف .. أقصد ميناء نويبع لننهي إجراءات سفرنا ونحصل على ختم المغادرة العزيز .. ثم نتفق مع إحدى رحلات العمرة المنتظرة على أن ننضم إليهم حتى المدينة وللعجب طلبوا أجرة مئة وخمسون جنيها فقط ـ نفس ما دفعناه لكي نصل إلى القاهرة ـ لعن الله الغش


انتظرنا حتى العاشرة لكي تتحرك العبارة من الميناء


شعور جميل أن تغادر سجنك ولو حتى إلى حين

شعور جميل أن تترك وطن لا هم له سوى إهانتك

شعور جميل أن تترك بلدا تجهد حتى ترى فيها شيئا آدميا

شعور بالراحة والأمن والحرية

ربما يكون منقوصا إذ أني أعلم أني لابد راجع .. لكنه يبقى جميلا

لست أدري لم يكرهون الغربة إلى هذا الحد

ما أحلاها
إن كان وطنك مثل هذا


ظللنا في العبارة أربع ساعات تقريبا لكن أصابعي تعلن تمردها عن الاستمرار في الكتابة لذا سأضطر لأن أجعلها في الحلقة الثالثة بإذن الله

4 comments:

مصطفي النجار said...

يعني نحرق نفسنا
عشان ترتاح
ما تكرهناش في البلد
يا سوداوي
كفاية اللي في قلوبنا
شكلك
كدا ما شربتش من نيلها

إيمــــان ســعد said...

شوف يا ابراهيم

حكايتك مع لون المدونة الاسود

مع منظر صورتك المبهمة الملامح قليلا

تحس انها اوراق رواية مهترئة لدستوفكسي مثلا يروي عن معاناة احد ابطاله المطحونين دائما

بجد

المعاناة تتجسد

ربنا يسهلى و اعمل عمرة قريب و ان شاء الله اجي احكي تفاصيل اكثر مرحا

:)

تحياتي و فى انتظار الثالثة لعلها اخف وطأة

كدا وبتاع said...

الله يسامحك يا ابراهيم طيب دا انا كنت بفكر اطلع السنادي لازم تديها حتة تشاؤم كدا

وبالمناسبة انا الايام دي بخلص ورق التجنيد يعني مش ناقصة تشاؤم الله يهديك ،
لو كانت التدوينة الجيه كدا فأدعوا يديك ان تتمرد أكثر حتى لا تكتب الى أن تظهر بارقة أمل للخروج من هذا الوضع المأزوم المتأزم المقهور المتقهقر !

إبراهيم أبوسيف said...

نجار
أولا لم أكرهك في شيء إذ لا أملك ذلك ولو ملكته لفكرت كثيرا في إخراجك أصلا

ثم لا تنعتني بالسوادوية فلست مسئولا عنها كذلك إنما مسود سودتني أحوالنا

أما عن الشرب فعافاك الله إذ أن الشرب من نيلها يصيب بالكثير من الأمراض التي لا تتسع ذاكرتي لحصرها بيد أني على الرغم من ذلك شربت من نيلها وياليتني ما فعلت

==========

السيدة إيمان

بعيدا عن كل نظراتك الجميلة لي ووصفك الممتع لسكل مدونتي الذي أحبه أدعو الله أن يسهل لك العمرة لكن لا تنسي أرجوك أوراق التجنيد ولا تتذرعي بمنطق كونك فتاة فليس للجيش منطق

عموما إن كنت تريدين تفاصيل أكثر مرحا
فتذكري أنك في بلد يحترم الادمية ويرعى مواطنيه مسافرة إلى بلد يفهم الاسلام من منظوره الواسع ولا ينصب نفسه مكان الله في الحساب والعقاب يحكمه إمام عادل ووزراء متقون
ولا تدعي أرجوكي أيا من تلك التصرفات العارضة التي قد تطعن في ذلك تثنيك عما تتذكرين عنهم إذ أن هذا محض أخطاء صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع

فقط تأكدي من طهارة قلبك

وبالنسبة لانتظارك الثالثة فأبشرك بأنها لن تكون أشد وطأة لأنها عيني التي ترى ويدي التي تحكي فلن يتغير شيء لدى دستوفكسي

==============

الأخ كده وبتاع
اليأس لدي ولديك زهرتان بريتان نابعتان من رحم الأمل كما يقول مطر
فلا تبتأس

الحقيقة أدعو الله أن يمنحك إفراجا من زنزانة التجنيد داخل سجننا الجبيب مصر لإذ أنها أسوء الزنازين فيه

لا تدعو يدي لشيء أرجوك فما تمردت إلا لركاكة أسلوبي وملالة سردي ولو وجدتهما جذلين لما توقفت

لكنها على الرغم من ذلك وافقت أن تكمل على نفس منوال الحقيقة المؤلمة ربما ليزداد غيظك ... لست أدري .. فهي من قررت

فلا تلمني أرجوك

===========

عموما شكرا لكم جميعا